[ إظهار ] المحتوى
بسم الله الرحمن الرحيم
من شاب إلى شاب
قد لا نجدُ النقادَ المختصين في عصرِنا هذا مهتمّين بجيلِ الشبابِ؛ ما يكتبُونه وما يتطلّعُون إليه، علماً أنّ الشبابَ في الآونةِ الأخيرةِ قد أثبتوا جدارةً وإبداعاً يستحقُّ الالتفاتَ إليه و النظر في محاسنِه وعيوبِهِ حسبَ "مفهومُ النقدِ".
لذلك أرى أنَّ على الشبابِ أنْ يكملوا المسيرةَ وحدَهم حتّى النهايةِ وأن يثبتوا قدرتَهم كاملةً، فكما أنّ الشبابَ كانوا قادرين في الصنعةِ الأدبيةِ الإبداعيةِ فلا بدَّ أن يثبتوا قدرتهم في النقدِ أيضاً، أو بأقلِّ تقدير؛ أن يلفتوا نظرَ النقّادِ إلى حالةٍ أدبيةٍ موجودة.
ولذا أطلقُ دراستي النقديّةِ الأولى بعنوانِ {مِن شابٍّ إلى شاب} حولَ قصيدةٍ للشابِ الشاعرِ قيس الحسين وقد ناقشتها في جوانبَ مما لي بعضُ العلمِ فيه، وحسبَ أسسِ النقدِ التي عرفتها في مسيرتي الأدبيةِ القصيرة.
صاحب القصيدة
نشأ على الشعرِ القديم "الجاهلي"، فوجدنا جلَّ كتاباته تنحو منحًى اتّباعيّاً قديماً محاولاً الوصولَ إلى عموديةِ الشعرِ الجاهلي القويمِ، كما أنَّ لقيس بضعةُ مشاركاتٍ على منابرِ الثقافةِ، وقد أثبتَ مراراً تميّزَه وتفوّقَه على أقرانِه ممّن لازمَه في أماسيه الأدبيّة، وهذا ما دعاني للالتفاتِ إلى شعرِه مهتمّاَ بما قد نسجَه،
وقعتْ بينَ يديّ قصيدةٌ له كانَ مشاركاً بها في إحدى المسابقاتِ الأدبيةِ، بعنوان "دامي الكفين" فنالت مني حيّزاً من التفكيرِ فهممتُ بمناقشتها نقاشَ الأدبِ المعهودِ الذي يسمى "نقداً"
وقد نصّت:
دامي الكفين
دنـــــــا لــــــيَ طـــــيــــــفٌ مــــــن كــويــكـبَ ناحلُ
شَـــــحُــــــوبٌ كـــأنْ قــــد نــــكَّـــلــــتــهُ الــمـنـاكــلُ
وأيــــــــامُ وصـلٍ مـــن ســــلــــيـــمــــى ودونَـــهــــا
بـــــقـــــــيَّــــــاتُ أطـلالٍ رمـــتْـهــا الـــنَّـــوائــــــــِلُ
تـُبـَلــِّغــــُنِـــي مـــنــكِ الــــصَّـــبــــابَــةُ مـــبْــــلَـــغــا
إذا أقـــْفـــــــرتْ مــــــن مــــؤْنــــِسيــهــا الـــمــنـازِلُ
فإنْ تــــصْـــــــرِمــي حــــبــــــلَ الــــوِدادِ فـــــإنَّــني
دؤُوبٌ إلـــــى نـــيــــــلِ الــــــــــوصــــــال وعَـامِــلُ
ألا كـــــلَّـمـــــــا دانـــتْ غــــــدَاةً لــــوَصْــلــــــِنَـــــا
يَــــحــُـــوْلُ لِـــــلُــــقْــيــــا أُمّ مــــالـــكِ حــــائـــــــلُ
وإنّــــي امْـــرؤٌ إنْ نابــــَنــي الـــشّــــوقُ أعــْتـــلـــي
مـــتــونَ الــــمَــــطَــايــــا تَــبــــْتَــــغِــيْــنــي المَقَاتِلُ
فــــــإنْ عُـــــدْتُ لـــــمْ أَبـْلُـــغْ ولـــمْ أنَــــلِ الـــلــِقــا
عَـــقَـــــرْتُ جـــوادي بـــئــــــسَ مــــا أنَـا نــائِــــلُ
ومـــثِـــــلـــِــــكِ أَرْضٌ قد شُـــغِـــفْـــتُ وروَّضــت
فـــــؤادي ولـــم تــخْـــــذلْــنـــِي وَالـدَّهـــــرُ خــاذِلُ
بلادٌ إذَا اسْـتــــقْـــصدْتَ سُلِّـــيـــــتَ عـــن ضَــنَــىً
وإنْ رُمْـتَ مـنـــهـا مــنْــهَـــــــلاً أنــــتَ نـــاهِــــلُ
أو ابْـــتَــغْـــــتَ لـــلسَّــيـــفِ المُخَـضَّبِ مَــعْـــقَـلَاً
تــرى لـكَ مــنــهـــا فــي دمــشـــقَ مــعَـــــاقِـــــلُ
مـتِـيــنَـــــةُ مُــلْــــــــكٍ لا يُـــرَامُ وحِــــصْــــنُــهــا
مــنـــيـــــعٌ إذا ارْتَـــــــدَّتْ إلــــيْـــــهــــا الجَّحَـافِلُ
ديــــارٌ لـــنــــا عــــجّـــــَت رباهـــا الـــرّواحــــل
عــــفــــا آيُــــــهَــــا والــدَّمـعُ مــنِّـــيَ هـــاطِــــلُ
يــــلـــــوذونَ أرْضـــــــــا لــــلــقــــرَارِ بعــيــدةً
وكــــــــلُّ مــــــلاذٍ دونَ جـــــــلَّـــــقَ بـــاطِــــلُ
وكـــــلُّ نـــــعـــــــيــــــــمٍ دون جــلّـــــقَ زائــلٌ
وكـــلُّ مـقـــــيــــــمٍ دونَ جـــلّـــق راحــــــــــــلُ
يــلـومـــونـــــنــــي أنّـي شُــغــِــفْـــتُ بـحــبهــــا
ولا يَـعْــــذُلــــنْ إلّا خَـــــذُولٌ وجــــــــــاهـــــــلُ
فـإنْ لــــكَ فـــــي ســــورِيَّـــةَ الـصَّونَ والـقـِرى
لـكـانـت لـصـونِ الـمـُسْـتـجـيــــــرِ الـصَّـــيـــاقلُ
كـِـلـــيــنــا نــذودُ الـضـّيــقَ عـنــكِ ونـمــْـتـطـــي
صُـدورَ الـــمـــنـــايـــا مـن عــــن الـمـوتِ سائلُ؟
على دأْبِ من خــاضَ الــشَّــهــادةَ واقــــتـضـــى
لــه الــدَّهــــرُ أنْ يُـــمـــســـي بــجَـــدْثٍ يــــزَاوِلُ
ألا حــيِّ مـــن لـــم يــــــرْضَ لــلـــــذُّلِّ منـــــزلاً
وأنْ يَــشْــمَــتَــــنْ فـــيـــهـــــا عــــــدوٌّ وعـــاذِلُ
فــــيــــا دامــــيَ الــكفّـــَيـــنِ والـبـــاذلَ الــــدِّما
ويـــــا مُـــدرِكَ الـــثَّــــــاراتِ والــقــــــومُ غـافـلُ
ويـــا خـــائــــضَ الأهوالِ والــقــــــاتــلَ الهوى
ويـــا مُــشــعِـــلَ الـتــاريـــخِ والـدَّهـــرُ خـــامـِلُ
لــقـــد جــرَتِ الأيّــــامُ حـــــولاً ولــ ــم تـــزَلْ
تَــكِـــفْـــــنَ الــثّـــكـالـــى دَمــْعَــهُــنْ والأرامِـلُ
تــجـــلَّــدي يـــا أمَّ الـــشَّــــهــيـــدِ وفـــاخــــري
فـــقـــــدْ يــَعِــــمَــــــنْ فــي الـقَــبـرِ حرٌّ وباســلُ
فـــكــلُّ فـــخـارٍ دونَ فـــخــــركِ هَــــيِّـــــــــــنٌ
وكلُّ سَـخِـــــيٍّ دونَ ســخْــيــــكِ بــــــــاخِــــــلُ
وكــــــلُّ رَكُــــــوبٍ لـــلـــسَّــلامــــةِ راجــــــِلٌ
وكـــــــلُّ حَـــــــفِــــــيٍّ دونَ حـــفْـــيــــكِ ناعِلُ
ومــــا الــمـــرءُ يــســـعــــى لــلــخُــــلودِ وإنَّما
فـــعـــالـهُ مـــن تــبـــقــــى ومـــن تـتـَـواصَــــلُ
ولـلــمـــجــــدِ أشــــــكـالٌ تــــؤوبُ كــثـــيــــرةٌ
وأنـــبـلهـــــا مـــجــــداً كــــريــــمٌ مـــنــاضِـــلُ
بــــلادي صِـلـــيْـــــــنـــي كي أُقَضِّــي لُـبَـانــةً
طَــــحَـــــــتْ بـــفــــــــؤادٍ لا يَــزالُ يُجـــامـِـلُ
أمــنْ بــعــدِ ما أشــفــيـــتِ للمُــضْـنى عِـــلَّـــةً
وطـــبْـــــطَــــبْــــتِ كَــلْـــمَـاً دامـيـاً.. يتطـاولُ
فلا تـسْــخَـطِـي يـا شــــــامُ فالــعــيشُ ناصِــبٌ
ولــــلـــظَّـــــالــــمِ الـهــضَّــــام يــومٌ لَـــقـاتِـــلُ
أولاً: محاكاة علم العروض والقوافي
كما علمنا أن البحرَ الطويلَ من البحورِ الصعبةِ التي أعيتِ الشعراءَ في العصر ِالحديث، وأنْ نجدَ شاباً في مقتبَل العمرِ يكتبُ هذا البحر، فهذا يستحقُّ من الواقعِ الأدبيِّ كلّ التقدير، وقد كانَ موفّقاً باختيارِ اللام المشبعةِ رويّاً لقصيدةٍ تتكلمُ عن الوطنِ متجهاً نحو عموديةِ الشعرِ المتبَّعِ في العصورِ القديمة، وإنما ورد ثلاثةُ كسورٍ في البحرِ الشعري نذكرها:
1 ـ ومـــثـــــلــــــِكِ أَرْضٌ قد شُـــغِــــفْـــــتُ وروَّضـــــت
فـــــؤادي ولـــم تــخْـــــذلْــــنـــــِي وَالـــدَّهــــرُ خــاذِلُ
في هذا البيتِ نرى الشطرَ الأولَ سليماً وإنما وردَ ساكنٌ زائدٌ في الشطرِ الثاني مما أخلّ بالبحرِ وتقطيعُ الشطرِ الثاني على النحوِ التالي:
فؤا دي ولم تخ ذل ني ود ده رخا ذلو
//0 /0 //0 /0 /0 /0 /0 /0 //0 //0
2 ـ تــجـــلَّـــــدي يـــا أمَّ الـــشَّــــهــيـــــــدِ وفـــاخــــري
فـــقـــــدْ يــَعِــــمَــــــنْ فــي الـقَــبـرِ حرٌّ وباســلُ
أما هنا فنرى الشطرَ الثاني سليماً ونجدُ الخللَ جليّاً في الشطرِ الأوّلِ وتقطيعُه على النحوِ التالي:
تجل ل دي يا أم مش شهي د وفا خري
//0 / /0 /0 /0 /0 //0 / //0 //0
3 ـ أمــنْ بــعــدِ ما أشــفــيـــتِ للمُضْنى عِـــلَّـــةً
وطـــبْـــــطَــــبْـــــتِ كَــلْـــمَــــاً دامـيـاً.. يتطـاولُ
وهنا نرى كسراً ثالثاً في الشطرِ الأوّلِ أيضاً بإضافةِ ساكنٍ زائدٍ وتقطيعُه على النحوِ التالي:
أمن بع دما أش في تلل مض نى عل لتن
//0 /0 //0 /0 /0 //0 /0 /0 /0 //0
وبهذا نكون قد سلّطنا الضوءَ على أغلاطِ العروضِ التي ربما التبستْ على أذنِ شاعرنا قيس، وربما قد علِمَ بها واعتمدها لرؤية. وإنما يُحسبُ له عدمُ استخدامِ أيٍّ من العللِ غيرِ المستحبةِ كالخرمِ والكفِّ ويُحسبُ له خلوُّ القصيدةِ من عيوبِ القافية.
ثانياً: تعارض العروض مع النحو والصرف والجوازات الشعرية
يَــــحــُـــوْلُ لِـــــلُــــقْـــيـــا أُمّ مــــالـــــــكِ حـــائِــــلُ
وهنا وردَ غلطٌ واضحٌ وهو " أم مالكِ" والأصلُ في القولِ: أم مالكٍ وليسَ من جوازاتِ الشعرِ تخفيف التنوينِ وإنما يخفّفه الشعراءُ بجوازٍ جائزٍ وهو المنعُ من الصرفِ فلا ينوّنُ وهذا ما يجوزُ في هذه الحالةِ، فتصبح: أم مالكَ وبذلك يستقيم الوزن والمعنى.
أو ابْـــتَــغْــتَ لـلسَّيفِ المُخَـــــضَّبِ مَــعْــــــقَـلَاً
تــــرى لـكَ مــنــهـــا فــي دمــشــقَ مــعَــاقِـــلُ
ورد في هذه اللفظةِ ما يجوزُ في الشعرِ وهو حذفُ حرفٍ من جسمِ الكلمةِ فلا يعتبَرُ خطأً لغوياً وإنما هذا الجوازُ مبغضٌ في الشعرِ.
لــقـــد جــرَتِ الأيّــــامُ حـــــولاً ولـــــــم تــــــــــزَلْ
تَــكِـــفْـــــنَ الــثّـــــكـــالـــى دَمــْعَــهُــــنْ والأرامِــــلُ
ذكرُت مسبقاً أنه يجوزُ حذفُ حرفٍ من جسمِ كلمةٍ في الشعرِ فما بالك وحرفين!! فقد جائت "تكفن" والأصلُ فيها تكفكفنَ لأن وكفَ له معنى مختلفٌ وقد أتت ثقيلةً بالكادِ تُفهمُ، أمّا عن النونِ فهي مفتوحةٌ في الأصلِ لا يجوزُ تسكينُها.
فـإنْ لــــكَ فــي سـورِيَّــــةَ الـصَّـــونَ والـقـِرى
لـكـانـت لـصـونِ الـمـُسْـتـجـيــــــرِ الـصَّـيـاقــلُ
هي إنْ المخففة عن إنّ وهي جائزةٌ لا يعابُ عليها، وإنما اللامُ هي المشكلةُ الحقيقيةُ فقد أعياني ربطُ المعنى بالإعرابِ الكاملِ للبيتِ الشعري وللهِ العلم في القصدِ!!!
فـــكــــلُّ فـــخــــارٍ دونَ فـــخـــــــركِ هَــــيِّـــــــــــنٌ
وكلُّ سَـخِـــــيٍّ دونَ ســخْــيـــــــكِ بــــــــاخِــــــلُ
وكــــــلُّ رَكُــــــوبٍ لـــلـــسَّــــــــلامــــةِ راجـــــــــــِلٌ
وكـــــــلُّ حَـــــــفِـــــــــيٍّ دونَ حـــفْـــيــــــــكِ ناعِلُ
المصدرُ من سخى هو سخاء وليس سخيْ كذلك حفى ولم يرد في المعجم مصدر سماعي أو قياسي على هذا النحو، والمقصود بالمعنى هو المصدر، ولا أظن أنه قد قصد شيئاً آخر.
فلا تسْخَطِي يا شامُ فالــعــيشُ ناصِــبٌ
ولـلـــظَّــالــمِ الـــهـــضَّــــام يــــــومٌ لَـــقـَاتِــــلُ
ناصب اسم فاعل من نصبَ ونصبَ في المعنى العام إما نصِب أي تعب وإما نصَب أي أقام، هذا في المعنى العام، وقد يخيّل للقارئ للوهلةِ الأولى أنّ ما قصدَه هو انتصب وحروف الزيادة تفيد التعديةَ فيصبحُ المعنى: العيشُ مقامٌ وإنما ورد في معجمِ الوسيطِ في تراكيب الجذر نصب: عيشٌ ناصِبٌ: فيه كَدٌّ وجَهد بها يكونُ المعنى تامّاً بليغاً. يضاف إلى ذلك اللام التي أعياني إعرابها فاحتمالها الوحيدُ في المعنى أن تكونَ لامَ التوكيد ولامُ التوكيدِ لا تدخلُ على الصفة!!!
وبهذا أكونُ قد مررت مروراً سريعاً على ما قد يلتبسُ من نحوٍ وصرفٍ في هذهِ القصيدةِ مسنِداً كلامي إلى مراجعِ الأدب، أما ما تبقّى فهو سليمٌ قواعدياً، مستساغٌ على آذانِ النحويين.
وكما أني أناقشُ قصيدةً مقروءةً فوجب عليّ التنويهُ بسلامةِ إملائيةِ الكتابةِ ولا غبارَ عليها.
أما عن النحو والصرف والعروض والإملاء فهي علوم ثابتةٌ ذات قواعدَ واضحةٍ لا ابتداعَ فيها وتبدأُ حدودُ الجمالِ والإبداعِ والابتداعِ في علمِ البلاغةِ، وضربُ البلاغةِ هو ضرب النقدِ فيسمى النقدَ الفني.
ثالثاً: النقد الفني للقصيدة:
وربما لا أستطيع مناقشة القصيدة أكاديمياً في البيان والمعاني كمناقشتي إياها في البديع لتوسع هذين العلمين واعتمادهما على كثرة الاطّلاع وقوة المثال، وخشيةَ الخوض مع عدم التمكن، وذلك عند أهل العلم (جريمة) فخضتُ في ما أستطيع أن أفتي فيه "ونصف العلم لا أعلم" !
البديع اللفظي:
بدأ قصيدته مصرِّعاً متّبعاً بذلك الأقدمين عامةً ولا أرى في تصريعِ البيتِ الأوّلِ سوى قيمةٍ جماليةٍ مضافةٍ إلى القصيدةِ وذلك كثيرُ الورودِ وإنّما ....ما لا يردُ كثيراً هو التصريعُ في منتصفِ القصيدةِ وقد رأى بعضُ النقّادِ في ذلك ضعفاً للقصيدةِ، لا، وبل كسراً في الوزن،ِ علماً بأنْ لا يجوزُ الإشباعُ في نهايةِ الشطرِ الأوّلِ وإنما طَرَقَ ذلك الأقدمون والمحدَثون ونأخذُ قولَ عنترة في معلقتِه:
هَلْ غَادَرَ الشُّـعَـرَاءُ مِـنْ مُـتَــرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَــرَفْتَ الـدَّارَ بَـعْـدَ تَـوَهُّمِ
إلا رواكــدَ بـيـنـهـنَّ خـصـائـصٌ
وبـقـيـةٌ مـن نـويـهـا الـمـجـرنـثـمِ
يَـادَارَ عَـبْـلَــةَ بِـالـجَــوَاءِ تَـكَلَّمِي
وَعِمِّي صَبَاحَاً دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمِي
دَارٌ لآنِـسَـةٍ غَـضِـيْـضٍ طَرْفُـهَـا
طَـــوْعَ الــعِــنـاقِ لذيـذةِ المُتَبَسَّـمِ
أَعْـيَـاكَ رَسْـمُ الـدَّارِ لَـمْ يـَتَـكَـلَّـــمِ
حَتَّى تَكَلَّـمَ كَــالأَصَـــمِّ الأَعْــجَــمِ
وهنا نرى عنترةَ قد صرّع ثلاثَ مراتٍ وفي قوله لم يتكلمِ فقد كسر الوزنَ بالتصريعِ إلا أنّ بعضَ النقادِ أعابوا على عنترة هذه النقطة.
ونجدُ هذه الحالةَ أيضاً عند المحدثينَ المعاصرينَ وهو ما وردَ في قصيدةِ الشاعرِ تميم البرغوثي "عشقة" حيث يقول:
كم أظهر العشق من سرٍ وكم كتما
وكــم أمـــات وأحيـــــا قـــبـلــنـــا أمــمـا
إلى أن يقول:
هذا الجمالُ الذي مهما قسا، رَحِما
هذا الجمال الذي يستأنسُ الألما
وبُتجاهلُ ضعفُ هذه الحركةِ لما رأيناهُ من ورودها فننظر إلى توظِيفها وأينَ وردتْ في قصيدتنا فيقولُ قيس:
ديــــارٌ لـــنــــا عــــجّـــــَت ربـــــاهـــا الـــرّواحـــــــــلُ
عــــفــــا آيُـــــــهَــــا والــدَّمــــعُ مــنِّــــــيَ هـــاطِــــلُ
وباعتبارِ التصريعِ مفهوماً محصوراً على بدايةِ القصيدة فإن التصريعَ في المنتصف ما هو إلا دلالةٌ على نقلةٍ فكريةٍ في القصيدةِ فإن تحقّقَ هذا كانتْ صفةً حسنةً وإن لمْ يتحقّقْ فهي عيبٌ من عيوبِ الشعرِ.ولننظرْ إلى ما سبقَها من أبياتٍ في الموضوعِ ونحكم بعدها.
أو ابْـــتَــغْــتَ لـلسَّيفِ المُخَـــــضَّبِ مَــعْــــــقَـلَاً
تــــرى لـكَ مــنــهـــا فــي دمــشـقَ مــعَـاقِــــــلُ
مـتِـيــنَـــــةُ مُــلْــــــــكٍ لا يُــــــــــــرَامُ وحِــــصْــــنُــهـا
مـــنـــيـــــعٌ إذا ارْتَـــــــدَّتْ إلــــيْـــــهــــا الــجَّــحَــــافِلُ
وهنا يتكلمُ في هذين البيتين عن دمشقَ مفتخراً مباهياً بها، محذراً ومنذراً كل من يفكر بمعاداتها ويلحقها ببيتٍ مصرّعِ يتكلمُ فيه عمّا جرى لدمشق وهو ما أحزنَه عليها وكما قُلنا أنّ للتصريع في المنتصفِ نقلةً فكريّةً فقد نفسرُ تلك النقلةَ هنا بالنقلةِ الزمنيةِ والأحداثِ التي مرّت على دمشق فصيّرتها كما وصفَ بأن قومها يرتحلون عنها وهو ما أحزنَه.
وأرى أنه أجادَ استخدامَ تلكَ النقلةِ الفكريةِ بشكلٍ جميلٍ بليغٍ لا يضيرُ القصيدة.
أما عن باقي المحسّناتِ اللفظيةِ المعروفةِ كالجناسِ والترصيعِ والسجعِ فلم ألقَ في القصيدة شيئاً منها، ربما لأن الشاعرَ كان يوجّه اهتمامَه ناحيةَ المعنى؟!! والله أعلم.
ومن البديع اللفظي أيضاً ما يسمى بالموسيقا الداخلية ومن بنودِها:
1-المحسّنات اللفظية: وقد تكلمنا عنها مسبقاً
2-الصيغ الاشتقاقية: وهو ما ورد في عدة أبيات في القصيدة بشكل ملحوظ فهو يقرن لفظين من اشتقاق واحد مثل قوله:
تـــُبـــــَلــــِّغــُنـي مـــنـــــكِ الــــصَّـــبـابَـــةُ مـــبْـلَـــغـــا
إذا أقـــفـــــــرتْ مــــــن مــــؤْنــــِسيـــــهــا الـــمــنــازِلُ
ألا كـــــلَّـــــــمـا دانــــــــتْ غــــــدَاةً لــــوَصْــلـــِنَا
يَــــحــُـــوْلُ لِـــــلُــــقْـيــا أُمّ مــــالـــــــكِ حــــائِـلُ
ومـــثِـــــلـــِكِ أَرْضٌ قد شُـــــــغِـــفْـــــــتُ وروَّضـــــت
فـــــؤادي ولـــم تــخْــذلْــــنـــــِي وَالـــدَّهــــرُ خــــاذِلُ
وهناك أكثر مما استشهدت به وإنما يكفي مثال على ذلك. ومن دور هذه الصيغ أن تزيد متانة سبك البيت وتلاحمه غير دورها في الموسيقا الداخلية.
3-التوازن في العبارات: وهذا ما رأيناه في القصيدة ثلاث مراتٍ، وإنما ظهرت قوتها أحياناً دون الأخرى وهذا ما وجب بيانه، فقد قال:
يــــلـــــوذونَ أرْضـــــــــا لــــلــقــــــــرَارِ بـــعــــــيــــدةً
وكــــــــلُّ مــــــلاذٍ دونَ جـــــــلَّـــــــــقَ بـــــاطِــــــــــلُ
وكـــــلُّ نـــــعـــــــيــمٍ دون جـــــــلّـــــــقَ زائــــــــــــلٌ
وكـــلُّ مـقـــــيــــــمٍ دونَ جــــــلّـــــــــــق راحــــــــــــلُ
وقال أيضاً:
فــــيــــا دامــــيَ الــكفّـــَيـــنِ والـبـــاذلَ الــــدِّما
ويـــــا مُـــدرِكَ الـــثَّــــــاراتِ والــقــــــومُ غـــــافـلُ
ويـــا خـــائــــضَ الأهوالِ والــقــاتــلَ الهوى
ويـــا مُــشــعِـــلَ الـتــاريـــخِ والــــدَّهـــرُ خـــامـِلُ
وقال:
فـــكــــلُّ فـــخــــارٍ دونَ فـــخـــــــركِ هَــــيِّـــــنٌ
وكلُّ سَـخِـــــيٍّ دونَ ســخْــيـــــــكِ بــــــــاخِــــــلُ
وكــــــلُّ رَكُــــــوبٍ لـــلـــسَّــــــــلامــــةِ راجـــــــــــِلٌ
وكـــــــلُّ حَـــــــفِـــــــــيٍّ دونَ حـــفْـــيــــــــكِ ناعِلُ
أمّا الأولى فتحوي ضعفاً ظاهراً تجلّى في تكرارِ كلمةٍ ثلاث مرات، ومن جمالية تكرارِ الصيغِ أن لا تتكررَ ذات الألفاظِ وإلّا أدّى ذلك بنا إلى تكرار الشطرِ ذاتِه وليسَ لذلكَ معنًى، إضافةً إلى أنَّ جلَق كلمة تحمل عظمةً لاحتوائها على حرفين قويين القاف والجيم وكلاهما حرف قلقلة ولا نجدُ في البيتين حاضنةً بذاتِ القوّة والصلابةِ لتكرارِ هذه اللفظةِ الثقيلة.
وأما الثاني فقد بلغ من جماليةِ القصيدةِ أوجها، وإن وردَ تركيبٌ ليس له، وهذا يعتبر نوعاً من أنواع التناص وهو تركيبُ "يا مدرك الثارات" والقول فيه للشاعر تميم البرغوثي:
يا مُدْرِكَ الثَارَاتِ أَدْرِكْ ثَارَنا
وَاحْفَظْ عَلَى أَوْلادِنَا أَخْبَارَنا
إذ اعْتَبَرْنَا المَوْتَ ضَيْفَاً زَارَنا
قُمْنَا وَقَدَّمْنَا لَهُ أَعْمَارَنا
وَمَا اسْتَشَرْنَاهُ وَلا اسْتَشَارَنا
نَخْتَارُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْتَارَنا
***
يَا مُدْرِكَ الثَارَاتِ لا تَرْضَ الدِّيَة
في المسجِدِ الأَقْصَى اذْكُر المُصَلِّيَة
يَرْمُونَ في وَجْهِ الجُنُودِ الأَحْذِيَة
نِعَالُهُم عَلى العِدَى مُسْتَعلِيَة
قِسِ المسافاتِ وقُلْ لي كَمْ هِيَه
وَكَم عَلَتْ عَلَى الخَبِيثِ نَعلِيَه...
وهي أرجوزةٌ تخاطب "مدرك الثارات" دون العلمِ من هو مدركُ الثاراتِ، فيظلّ القارئُ بعد انتهائِه منها مفكَراً متأملاً في من قصدَ بمدركِ الثارات القادرِ على فعلِ كلّ هذا، وأظنُّ أن قيس قد أجابَ على هذا التساؤلِ بصيغةٍ أو بأخرى حين تكلّمَ عن باذلِ الدما وهو الشهيدُ المناضلُ على أنه مدرك الثارات الذي تكلّمَ عنه تميم وما أتى به هو معنًى عميقٌ بليغٌ يحملُ رسالةً ساميةً هي أن لن تُردَّ الحقوقُ إلا ببذل الدماءِ، وإنما لحفظِ الصنعةِ الأدبيةِ والأصولِ في الشعرِ؛ وجبَ أن يضعَ التركيبَ بين قوسين.
وأما الأخير فلا يخلو من جمالِ اللفظِ وإنما قد وقعَ عليه عذرُ الصرفِ كما ذكرتُ؛ فأضعفه، إضافةً إلى ما نراهُ من حشوٍ وإقحامٍ للكلامِ في الشطرِ الأخيرِ؛ فقد أعياني فهمه، فإنْ قصدَ به معنى وغاب عني، فإنَّ الشطرَ غير مفهومٍ بالمجملِ، والله أعلم؟!!
4ـ تناغُم الحروفِ في صفاتِها ومخارجِها:
لا نرى في القصيدة أي تجاورٍ لحرفين من مخرجٍ واحدٍ أو مخرجين متقاربين أو متجانسين مما يجعل القصيدة يسيرةَ اللفظِ سهلةَ القولِ والإلقاءِ وما زادَها جماليةً وبداعةً؛ هو تكرارُ الحروفِ؛ وتكرارُ الحروفِ أمرٌ معهودٌ وإنما المميزُ هو ربطُ الحرفِ المتكرر بالمعنى المطروقِ، ونضرب أمثلةً على ذلك في البيت الأول:
دنـــــــا لــــــيَ طـــــيـفٌ مــــــن كـــــويـــكــبَ ناحلُ
شَـحُــــــوبٌ كــأنْ قــــد نــــكَّـلــــتــهُ الــمـــنـــاكـــلُ
فقد رأينا في البيتِ الأولِ وقد استهلَّ قصيدتَه بالغزلِ تكرارَ حرفِ النون؛ ما أعطى جماليةً موسيقيةً للبيتِ، فإذا ذهبنا لصفات الحرف نجد
حرف النون : حرف استفال أي ضد الاستعلاء
حرف انفتاح أي ضد الإطباق
حرف اعتدال أي بين الشدة والرخاوة
حرف إذلاق أي ضد الإصمات
وحرف جهر أي ضد الهمس
وهنا نلاحظُ أن معظمَ صفاتِ الحرفِ من الصفاتِ الضعيفةِ السهلةِ على النطقِ مما يجعله يحاكي الغزلَ في صفاتِه؛ سهلاً سلساً مشجياً للنفسِ، حتى ونستطيعُ تشكيلَ حقلٍ معجميٍّ لهذا المعنى والنون (وهن،هان،هنئ،نعم،....) كذلك نرى أعظمَ قصائدِ الغزلِ تأخذُ النون قافيةً مثل جرير حين يقول ـــــ وآخذ أشهر أبيات القصيدة ـــــ:
إن العيون التي في طرفها حورٌ
قـتــلنــنــــا ثـــم لــــم يـحــيـــيـن قتلانا
وأيضاً من قصائد الفراق التي خلدها الأدب نونية ابن زيدون التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وما يلفتُ النظرَ أكثر هو تلازمُ الكافِ معها، والكافُ حرف يلعب على وترين، فهو حرف هامس رقيق كما أنه حرف شِدة، حرف استفالٍ رغم أنه مصمت، لذلك فإن الكافَ ذو روحٍ خاصةٍ دعمتِ النون موسيقياً كما حافظتْ على تماسكِ البيتِ من الرخاوةِ المطلقة؛ فلا ننسى أن القصيدةَ تأخذ المنحى الوطني، وأرى أنّ هذا البيت موسيقياً تحفة فنية .
وذلك جميلٌ لوروده في الغزلِ، و قد أكّد ذلك في نقلته بين الغزلِ وموضوعِ القصيدةِ الرئيس ألا وهو الوطن، فقال في آخر غزله:
فــــــإنْ عُـــــدْتُ لـــــمْ أَبـــــْلُـــــغْ ولـــمْ أنَــــلِ الـــلــِقــا
عَـــقَـــــرْتُ جـــوادي بـــئــــــــسَ مــــا أنَــــــا نـــــائِــــلُ
وقد توالى نونان في آخر البيت وكأنه يخبّرنا أن هذه نهاية الغزل والرقة، فيُتبع ذلك البيت قائلاً:
ومـــثـــــلــــــِكِ أَرْضٌ قد شُـــغِــــفْـــــتُ وروَّضـــــت
فـــــؤادي ولـــم تــخْـــــذلْــــنـــــِي وَالـــدَّهــــرُ خــاذِلُ
وهنا نرى تكرار الضاد والخاء وهما حرفا استعلاء، حرفان قويان صلبان وجب وجودهما في استهلال موضوع الوطن والأرض حتى وإن شبه الوطن بالأنثى.
ولا يُقصرُ الوطنُ على هذهِ الجزالةِ وإنما للوطنِ وجوهٌ عدة، فهو يؤكّدُ في البيتِ الذي يليه بالمبنى والمعنى حيث يقول:
بـــلادٌ إذَا اسْـتـــــــقْـــصدْتَ سُلِّيتَ عن ضَنَىً
وإنْ رُمْــــتَ مـنـــهـــا مــنْــهَــــلاً أنــــتَ نـــاهِــــلُ
وقد تتالت النونات والهاءات وذلك دلالةُ الراحةِ فالهاء حرف همسٍ حرفٌ خفيفٌ على النطق ومجاورته للنون في هذا البيت يدل على معنى البيت نفسه؛ أي أن في أرضنا نجد الراحة كراحة النطق به.
فإذا ذهبنا إلى عجزِ القصيدةِ وصلبِ الفخرِ نرى حروفاً واستعمالاتٍ أخرى نضربُ مثلاً:
فـــكــــلُّ فـــخــــارٍ دونَ فـــخـــــــركِ هَــــيِّــــــنٌ
وكلُّ سَـخِـــــيٍّ دونَ ســخْــيـــــــكِ بــــــــاخِــــــلُ
ونرى حرفَ الخاءِ وهو حرفٌ تشتركُ به الصفاتُ الثلاثة هذه وهي:الاستعلاء والإصمات والرخاوة ويجتمع معه في هذه الصفات حرف الغين وهما معاً حرفا الغصة، حرفان يحمّلان اللفظ ما لا طاقة للمعنى بحمله، ونراه أجاد!!!
فنذهب إلى آخرِ القصيدةِ حين يقول:
بــــلادي صِـلـــيْـــــــنـــي كي أُقَضِّي لُبَانةً
طَــــحَـــــــتْ بـــفـؤادٍ لا يَـــــزالُ يُــــــجـامـِـــلُ
أمــنْ بــعــدِ ما أشــفــيـــتِ للمُضْنى عِـــلَّـــةً
وطـــبْـــــطَــــبْـــــتِ كَــلْـــمَــــاً دامـيـاً.. يتطـاولُ
فلا تسْخَطِي يا شامُ فالــعــيشُ ناصِــبٌ
ولــــلـــظَّــالـمِ الـــهـــضَّــــام يـومٌ لَـــقــــَاتِــــــلُ
ونرى هنا أن الحروفَ الثقيلةَ قد كثرتْ وذلك لمخاطبتِه الوطنَ ورفعِ معنويات ذلك الوطن وذلك لا يكونُ إلا بهذه الحروفِ القويّةِ وهي مجموعةٌ في "خص ضغط قظ" وهي حروف الاستعلاء.
وبهذا نجدُ الشاعرَ ينوّعُ في اقتناصِه للمفرداتِ والحروفِ حسبَ الموضوعِ وما يناسبُه وذلك إن دلَّ على شيءٍ دلّ على سماعٍ كثيرٍ للغةِ والشعرِ وفطرةٍ وموهبةٍ واضحتين.
بما أنّ قيساً قد ضربَ منهجَ الاتباعيّة في قصيدتِه فلنا أن نناقشها حسبَ عمودِ الشعرِ القديمِ {الجاهلي} ونضع تنويهاً في بدايةِ المقالِ أن الاتباعيةَ نسبية، فلا تُطال كاملةً ولا تُتركُ كاملة في قصيدة عمودية "من نظام الشطرين"، فإذا نظرنا إلى القصائدِ القديمةِ نجد الأغلبيةَ العظمى تبدأُ بالمقدَّمةِ الطلليةِ الغزليةِ وهذا ما وجدناه في الأبياتِ السبعِ الأولى حيثُ بدأ مسترجعاً تلك الذاكرة من العهودِ المنقضيةِ فيراها طيفاً ناحلاً مقيداً فيعطف على ذلك الطيف أيام الوصل وما خلّفته من أطلالٍ جارَ عليها الزمن، وفي الثالثِ يقولُ أن الصبابةَ موجودةٌ حتى إذا خلتِ الدورُ وأصبحتْ طللاً وفي الرابعِ أنكِ مهما منعتِ الوصلَ سأبقى في طلبه وأنك مهما قربتِ لوصلنا يُمنع ذلك في أي ظرف وذلك في الخامس، أما في السادس والسابع يصفُ نفسَه مخاطباً "أمَّ مالك" التي ذكرها فيقولُ أنه إذا تملكه شوقُه لا يخافُ أيَّ شيءٍ فيعتلي ركبَه ويجابهُ الموتَ ونفهمُ تقديراً أنه يفعل ذلك للوصلِ المذكور،ِ فإن عدتُ إلى مكان وصلنا عقرتُ جوادي معلناً عدمَ ارتحالي ثانيةً وأن لا أريد سوى أم مالك ولكنني لم أبلغْ ما أريده ولم أنل اللقا فبئسَ فعلٍ فعلتُه حينَ عقرتُ جوادي، وهنا تأتي القفزةُ إلى موضوعِ القصيدةِ الأساسي وهو "الوطن" حيث يعطف على محبوبته أرضَه وقد أحبّها وإنما أرضه لم تخذله كما خذلتُه محبوبته وهذه معاني القسمِ الأولِ بالصورة العامة ولنقفْ على بعض النقاط في إطار هذه المعاني وهي معانٍ جميلة أخذت على آذاننا وأذهاننا فتعودنا عليها وأحببناها ولكني لا أرى في الاتباعيةِ ضرورةً لتكرارِ المعاني ذاتِها تماماً فلربما نستطيع أن نضع الأساسَ في قوالب التجديدِ فنأتي بإبداعٍ جديد.
ونعلمُ أنّ المقدَّمةَ الطلليةَ هي ما اعتدَّ الشعراءُ القدامى به، فإذا رجعنا إلى هدفِ المقدَّمةِ الأساسي وهو أن تشدَّ المستمعَ أو المتلقي بها كذلك سببُ استخدام المقدمة الطللية وإنما أخذتْ دورها لما تركتْه من أثرٍ في نفوسِ البشرِ في تلكَ الفترةِ الزمنية، فقد كانَ من أوّلِ وأكبرِ المشاكلِ في ذلك الوقتِ هو كثرةُ الترحالِ وكثرةُ الفقد، أمّا في عصرِنا فكثرةُ الفقدِ موجودةٌ وإنما ليسَ لنفس السبب الذي بكاه الجاهليون فقد كان من الممكنِ أن يبدأَ بالمقدمةِ الطللية ويمثّل للطللِ بصورةٍ من حاضِرنا وهذه هي الاتباعيةُ التي تحفظُ أصولَ الشعرِ وتواكبُ مشاعرَ الإنسانِ الحديثِ، فمعاني الطلل مهما تم الابتداع فيها تبقى قالبا قديماً وقد يعتبرهُ البعضُ مستَهلكاً، أما بالنسبةِ للنقلةِ الجميلةِ والربط الرائعِ بين حبّ الأنثى وحبِّ الوطنِ كذلك قال الجواهري:
وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً
لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا
ومن ثَم يدخل في صلب موضوع الوطن ليتطرق للفخر ولعظمة دمشق وما قد تناله في دمشق، فإذا نظرنا إلى عمودِ الشعرِ ـــــــ وهو ما بدأه ولم يكملْه ـــــــ فإن عمودَ الشعرِ المعهودِ يتطلبُ الكثير، فهناك عاملُ الخمرِ ولم يُذكرْ وهناك عاملُ الشباب والمشيبِ وهما أساسان والكثيرُ من المعهودات كوصفِ الرحلةِ وما شابه، فلا أروى ظمأنا من عمودِ الشعرِ القديمِ المتينِ المشجي كاملَ الإرواءِ ولا تركنا نستمتعُ بمعاني عصرِنا التي يسهلُ فهمها فظلَّ النصُّ محيِّراً بينَ هذين المذهبين وإنما غلبَ الأسلوبُ الاتباعيُّ مما يحصرُ القصيدةَ في الاتباعيّةِ دونَ استكمالِ النمطيةِ.
أما بالنسبةِ للبيانِ والمعاني ففيها ما نجدهُ في قصائد القدماءِ إلا أنه لم يصل لقوةِ سبكِها، وقد ورد الحشو والتزيينُ في القصيدةِ مما أضعفَ من تقييمها الأدبيِّ ونذكرُ من ذلك قولَه:
فإنْ تــــصْـــــــرِمـي حــــبـلَ الـــــــــوِدادِ فـــــإنَّــــــني
دؤُوبٌ إلـــــى نـــيــــــلِ الــــــــــوصــــــال وعَـامِـــــلُ
فلو حذفنا العطفَ الأخيرَ "وعامل" لاكتملَ المعنى ووجدنا هذه التكملة ما هي إلا لإتمامِ الوزنِ لا وظيفةَ لها وحبذا لو أضافَ معنى جديداً كالقول:
فإنْ تــــصْـــــــرِمـي حــــبــــــلَ الـوِدادِ فـــــإنَّــــــني
دؤُوبٌ إلـــــى نـــيــــــلِ الــــــــــوصــــــال أقـــــاتــل
ولكانت أبلغ.
وغيرها ما يؤخذ على سبيل التزيين وما يمكن تأويله في تكرار المعنى كالتوكيد مثلاً والله في ذلك أعلم!!
ولم أتكلّمْ عن غيرِ المقدَّمةِ لأنَّ للمقدمة دورها في شدِّ ذهنِ المتلقي وهي ما تحتاجُ الصنعةَ الأدبيةَ المتقنةَ أكثرَ من القصيدةِ ككل، أما موضوعُ القصيدةِ العامُّ تمنينا أن يكونَ مأخوذاً من الواقعِ بشكلٍ أكبرَ ولذلك أثرٌ في النفوسِ سواءً في المعنى أو في اللغة، فهدفُ الشعرِ الأولُ هو إيصالُ فكرةٍ ورسالةٍ مما يتطلبُ البحثَ عن كلماتٍ مفهومةٍ أكثر، وإن كانت الجزالةُ واقتناصُ الألفاظِ الغريبةِ ضربٌ من ضروبِ القوةِ والجزالةِ وتدلُّ على التبحّرِ في الشعرِ القديمِ، لكنّا اليوم نحتاج إلى شعرٍ مفهومٍ أصيلٍ يصلُ إلى عامةِ المجتمعِ بالترافقِ مع حفظِ اللغةِ السليمةِ والموروثِ الأدبيِّ قلباً وقالباً ، ولا ضررَ في التنويعِ بين القديمِ الذي يُظهرُ الثقافةَ العاليةَ وبينَ الحديثِ المستساغِ لدى العمومِ، وتبقى قصيدة ندرَ كتّابها في عصرِنا وقلّ مجيدوا هذه الصنعةِ الصعبة، ونتمنّى على الشاعرِ إكثارَ القراءةِ وتنويعَها ــــ كما نتمنّى على نفسنِا ـــ والثباتَ والإكمالَ في هذه الطريقِ الشاقةِ، وبهذا أكتفي، علماً أن القصيدة لم تكتفِ بعد ولكن مخافةَ الإسهابِ والملل، والكثرةِ فالزلل والإكثارِ في العلل، راجياً أن يكون قولي سليماً خفيفا ممتعاً لطيفا، وللنقد نقد، وفوق كل ذي علمٍ عليم.
مراجع:
المرشد الوافي في العروض والقوافيالدر الثمين في تجويد كلام رب العالمين
مختصر علم البلاغة
وعدة مقالات ...
أحمد زياد غنايمي
شاعر وأديب سوري،ولد في حلب وعاش فيها،كتب الشعر منذ الصغر ويشق طريقه في نقد القصائد حيث طموحه وله ديوان شعر مطبوع بعنوان "أول الغيث"
برافو أحمد برافو بالتزفيق والمزيد من النجاح يارب
ردحذفشكرا للجهود المبذولة
ردحذففعلا محتوى مفيد
ردحذف