[ إظهار ] المحتوى
خلاصة القصص في نشأة الشعر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الشعر العربي بشكل عام مرّ بمراحل طويلة وهو ما يتفق عليه معظم الباحثين والدارسين للشعر العربي وأصوله، أما نشأة الشعر العربي وبدايته وأولية هذا الفن فهو ما اختلف عليه الكثير وكلٌّ وقف في صف وكلٌّ طرح نظريته وقبل أن يقال أي حرف يضرب في أصل وأولية هذا الشعر فهو محض تخمين وتكهن ولا يثبت حرف فيه إنما نأخذ بما يتوقعه العقل ويقبله المنطق فليس لدينا دليلٌ ملموس ولا مخطوطة قديمة تثبت بدايته وما وصلنا من الشعر إنما من القرنين السابقين للبعثة النبوية وهو ما نسميه بالجاهلية ولم نحصل على نصٍّ أو دليل يثبت صحة شعر قبل هذه الجاهلية ولتعدد الأقاويل والظنون ألخّص وحسب معرفتي الضئيلة وما أحطت من بحث وتفتيش بخلاصة لكل ما ورد من بحوث وكتب لباحثين في هذا الشأن ولذلك كان العنوان جليّاً شارحاً ما فيه ولله الحمد على ما استطعت به من تلخيص لكل ذي فضول وكل باحث مستجدّ في هذا الضرب وأعوذ بربي من كل خطأ وجلّ في علاه المعصوم عن الأخطاء.تعريف الشعر العربي على وجه التمهيد:
الشعر العربي وبدون تكلف ولا تدقيق وحسب ما استخلصته من عشرين تعريفاً لم أذكرهم لكي لا أطيل وأخرج عن موضوعنا الأساسي هو:"كل كلامٍ موزون مقفى مقصود فيه معنى" وأضيف للتوسع قليلاً أن يكون من مشاعر أو علم أو تجربة وهو أيضاً حسب الرواة : ما دون النثر فلا تخلط بينهما آذان العرب ولا ألسنتهم، وهو ما يأتي من مبدأ أن الكلام نوعان نثر وشعر ولا خلط بينهما وكلٌّ وحيد.نظريات نشأة الشعر العربي:
1 التطور التتابعي :
وهو القول الغالب لدى معظم الباحثين وتنص هذه النظرية على أن الشعر تطور من النثر تدريجياً ابتداءً من السجع فالاتساق فالمقاطع فالحدو فالرجز فالشعر كما نعرفه وهو كما قيل أن السجع أقدم من الشعر وطبعاً يكون تطور الشعر هنا مرتبطاً بالسجع حيث يكون السجع كما يخطر بالبال اتساق نهايات الكلمات أو الجمل المتتالية بمحض الصدفة ثم يتطور من اتساق الجزئين بعدد الحروف فظهور النغمة أو المقطع النغمي (وهو ليس وزناً شعرياً) ثم تناسق قافيته من روي وحركته وما إلى ذلك ثم تطوره إلى جوازات الرجز "الركيكة" التي لم يأخذ بها الفراهيدي ثم أصبح أرجوزةً ثم تطورت الأرجوزة إلى باقي الأوزان تدريجياً حسب التقدير ومن باب العلم أن في تلك الفترة وما يليها من فترات طويلة حتى أقدم ما وصلنا من شعر كان الشاعر لا يقول إلا بيتاً أو اثنين من باب الحاجة ولم يطل القدامى كما قال الرواة قبل المهلهل وهو أول من هلهل الشعر أي أطال به ويقال أي غناه وقد يكون الشعر في بدايته شطراً واحداً ولربما كان شطراً مجزوءاً والله أعلم وتتعد وجهات النظر في هذه النظرية من حيث الترتيب في المراحل وعددها واخترت الأغلب تكراراً والأقبل للمنطق وما وجدته "خلاصةٌ" وأكثر أهمية وكما ذكرت لا صحة ثابتة لأي نظرية كما حال هذه.
2 نظرية النشاطات الجماعية:
وفي هذه النظرية نجد دليل منطقي غير مثبت أو ملموس وهو من عادات العرب "النشاطات الجماعية" من رعاية إبل أو بناء البيوت الطينية أو خوض الحروب... وذلك حسب النظرية أن هذه الأعمال تتطلب حركات اعتيادية تكرارية كما الأوزان العروضية وهذا القول يحمل شيئاً من المنطق كما سابقه وهو أيضاً يتبنى أن أقدم وزن هو الرجز وهذا التوقع سائد عند معظم الرواة وربما يعود الأمر لكونه الأقرب للنثر ولسهولة نظمه كما كان العرب يكثرونه في الارتجال لسلاسته وسُمّي حمار الشعر لسهولة ركوبه ، وهذه النظرية تأتي في المرتبة الثانية من حيث الانتشار وهي منطقية بعض الشيء وتعتمد على العادات وربما تكون ذات صلة بالسجع وقد تكون تتمة للنظرية السابقة حيث تكون نشأة السجع وتتطوره وتحوره للرجز ضمن هذه النشاطات والحركات التكرارية الاعتيادية من دندنة الكلمات على نسق العمل.3 نظرية أصل اللغة:
وهي من النظريات التي أعتبرها غريبة نوعاً ما وصعب على المنطق استيعابها إنما لا أملك من العلم والخبرة ما يؤهلني لنفيها فقد وجب علي تضمينها كما أنني لا أستبعد كونها الحقيقة لنشأة الشعر ولكن لا أرجحها وتنص هذه النظرية أن الإنسان بشكل عام قبل نطق الكلام وقبل وجود اللغة كان يصدر أصواتاً مثله مثل سائر الحيوانات ومع تطوره بدأ يطور الأصوات حتى ظهر اللحن أو الوزن قبل الكلام نفسه وبعدها وجدت اللغة ضمن هذا القالب اللحني وصعب علينا الغوص في وجود اللغة فذلك أصعب من نشأة الشعر بمراحل فلن أدخل فيها ولا حتى بتعريف وإنما تكون هذه النظرية غريبة في أمر وهو أن الشعر قبل النثر وأن النثر وليد الشعر وذلك صعب الإدراك للوهلة الأولى إنما يقول متبنو هذه النظرية أن النثر بحاجة لتفكير وإدراك وبعض من المعرفة المكتسبة من الأجداد على عكس الشعر الذي لا يحتاج للتفكير إنما ينبع من الإحساس والحالات الإنفعالية وهو ما لا أوافقه فيها وإنما الله أعلم إن كان هذا ما حدث حقاً.4 نظرية الجن والسحر:
وهذه النظرية تعتمد مبدأ الشعر الذي تقوله الجن ولها عدة أوجه أولها أن الشعر نشأ عند السحرة والكهنة وأن العامة تعلموه منهم حيث أن الشعر سحرٌ يخلق من الشعوذة وما إلى ذلك أو أن الشعر كلام الجن منذ الأزل وأن البشر تكلموه لما كانت الجن تسكن نفوسهم آنذاك حتى تعلموه أو ربما إلى الآن مازال الشعر للجن فقط وأن من يرويه على ألسنة الشعراء هم الجن حقاً وهذا مخيف أو أن الكلام تأثر من ترتيل السحرة ومتبعي الأساطير والآلهة وما إلى ذلك فأخذ من نغماتهم وتطور تدريجياً ويرجع هذا القول إلى أن الشعر وليد الديانات القديمة والأساطير ويقال أن الشعر كلام الآلهة من إغريق وغيرهم وجاء للبشر العاديين من الرهبان الذين كانوا يخاطبون الآلهة ويقابلونهم ولكن هذه النظرية ضعيفة الانتشار فثلة قليلة من يصدقونها فهي تعتمد مبدأً أسطورياً قديماً وهذا ما نفاه الإنسان المعاصر.5 نظرية بداية الخليقة:
وهذه النظرية وهي الأغرب والتي لا دلائل لها بتاتاً ويستبعدها كل ذي شأن وعلم وهي أن الشعر بدأ منذ خلق الله البشر وأولهم آدم عليه السلام وكان الشعر كما نعرفه في زمننا الحاضر وسأثبت في هذه الدراسة الأدلة التي تضحد هذه النظرية وقد ذكرتها لكي لا يقع أي قارئ حديث في هذا المجال في هذه الترهات حيث تقول هذه النظرية أنه عندما قتل قابيل أخاه هابيل رثاه أبوه آدم عليه السلام بقصيدة قال فيها:بكت عيني وحق لها بكاها
ودمع العين منهمل يسيح
فما لي لا أجود بسكب دمع
و هابيل تضمّنه الضريح
رمى قابيل هابيلاً أخاه
وألحد في الثرى الوجه الصبيح
تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبر كشيح
تبدل كل ذي طعم ولون
لفقدك يا صبيح يا مليح
أيا هابيل إن تقتل فإني
عليك الدهر مكتئب قريح
فأنت حياة من في الأرض جميعاً
وقد فقدوك يا روح وريح
وأنت رجيح قدر يا فصيح
سليم بل سميح بل صبيح
ولست ميت بل أنت حي
و قابيل الشقي هو الطريح
عليه السخط من رب البرايا
و أنت عليك تسليم صريح
فرد عليه إبليس قائلاً:
تنوح على البلاد ومن عليها
وفي الفردوس ضاق بك الفسيح
وكنت بها وزوجك في نعيم
من المولى وقلبك مستريح
خدعتك في دهائي ثم مكري
إلى أن فاتك العيش الرشيح
وبغض النظر أن لا عاقل يمكنه تصديق هذه القصة وخسارة التفكير وكتابة الأدلة الواضحة التي تثبت كذبها إلا أن لا بد من ذلك:
أولاً :وهو أصرح ما يذهب إليه التفكير أننا لم نحصل على قصة سيدنا آدم وما جرى وقتها إلا من القرآن والسنة وبعض القصص التاريخية القديمة ولم يذكر ذلك بتاتاً في القرآن ولا على لسان محمد عليه الصلاة والسلام ولا في أضعف الأحاديث فمن أين جاءت هذه القصة؟؟!!
ثانياً :وهو أن هذه القصيدة أشبه ما يكون قائلها نزار قباني ولا يعقل أن مثلها قيل في ذلك الزمن السحيق فإن قرأنا المعلقات وهي ليس بالقديمة مقارنة ببداية الخلق فلن ندرك معظم ما فيها إلا بالشرح والمعاجم أو أن يكون القارئ أديباً مختصاً وهي ليست بالبعيدة فكيف بقصيدة قبلها بآلاف السنين بل وربما ملايين السنين والله أعلم تكون مثل القصيدة التي نعرفها الآن وهذا منافٍ للمنطق ولا جدال فيه.
ثالثاً: وهو بناء القصيدة الداعم للفكرة السابقة نبدأ عروضياً حيث أن الوافر من أعذب البحور وأسلسها فلا يمكن أن يكون أول ما قيل من الشعر كما أنه ليس موافقاً بتاتاً لكل الأحداث إنما المصيبة هي أنّ القصيدة مليئة بالكسور العروضية وهذا يعارض فكرة خلق الله للشعر مع آدم فلن يخلق الله الشعر مكسوراً ركيكاً وحاشاه كما أنه يحوي أخطاء نحوية وصرفية وأيضاً الكلمات المستعملة لم تكن تحمل هذه المعاني في السابق مثل كشيح ورشيح... كما التراكيب مثل رب البرايا وهو حديث مبتدع وذلك كله واضح.
رابعاً: وهو في رأيي من غباء "الملفّق" أنه أولاً لا يجيد الشعر والعروض وثانياً لا يجيد إحكام الكذب من حيث بناء القصيدة فهو ليس له علاقة بالأدب أصلاً ولا يمتّ له بصلة وأخيراً أنه استعمل الشطر الأول من القصيدة وهو لحسان بن ثابت في قصيدة له مطلعها:
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
وأظنه استسهل في الكتابة فاختار قصيدةً وسار على منهجها كما أن هذه القصيدة لم تكن معروفة وظهرت مؤخراً في القرن التاسع عشر في عدة كتب لن أذكرها فهي لا تستحق القراءة فجأةً وصارت منتشرةً على ألسنة الناس وتوضع في بداية أو مقدمة الكتب تباركاً بقول النبي ولله درّ من صدقها وأتوقع أنني أطلت في أمرٍ جليٍّ لا معنى من شرحه إنما عزّ عليّ القارئ الحديث والصغار في السن فلكثرة انتشارها قد تضل الناس وقد بلغت ما بلغت.
الخلاصة:
وبعد كل هذا البحث المعمق وطرح الأفكار وتقسيمها وانتقاء مفيدها أجتهد بخبرتي المتواضعة لاستنباط خلاصة ونظرية جماعية تكون أقرب ما يكون للعقل والمنطق باستبعاد النظرية الخامسة كونها خاطئة تماماً ومستحيلة الحدوث فتكون هذه الاستنتاجية لأولية الشعر أنه ربما كانت بداية الشعر سجعية فعلاً نتجت من ظهور وتطور السجع عبر النشاطات الجماعية والحركات التكرارية المنتظمة متأثراً بالأصوات والنغمات التي ربما وُجدت قبل اللغة نفسها والكلام السائر على ألسنة السحرة متأثراً بالعادات السائدة في الزمن السحيق وسائراً عبر المراحل المتوقعة من تماثل الأجزاء واتفاق القافية وظهور بعض القطع النغمية ثم الرجز بجوازاته الركيكة حتى انتظم واتسق وتطور تدريجياً لباقي بحور الشعر وربما كانت بدايته شطراً واحداً والله أعلم وكل ما قيل فيه ضرب من التخمين والتقريب للوصول لأقرب صيغة ممكنة من بداية الشعر وربما كانت فعلاً كما نتيجة بحثي وكان الشعر سار مساره المتوقع حتى وصل لشكله الجميل هذا.إن الشعر العربي بكل ما فيه من بلاغة وجمالية وقدرة على اختراق أشغفة القلوب فهو بدأ يوماً ما بشكل أو بآخر إما متطوراً أو خُلق كسائر الأشياء لكنّ الأكيد أنه لم يكن كما نعرفه الآن وكان بشكل مغاير تماماً فهذا ما نستدله من أقدم ما وصلنا شعر حيث كان مختلف الألفاظ والأغراض وحتى أن بعض الشعر وصلنا مكسور الوزن فربما كانت بداية اتساق الوزن وانتهاء تطوره في بداية الجاهلية التي نعرفها لكن هذا لا ينفي أن يكون تعرض للتعديل والكسر في الوزن في مرحلة الحفظ والنقل التي كانت ضعيفة جداً لدى العرب حيث تأخروا في الكتابة على عكس باقي الحضارات ويبقى الأمر غامضاً مجهولاً ولله العلم وهو على كل شيءٍ قدير.
المراجع:
نشأة الشعر الجاهلي وتطوره-دراسة في المنهج
نقد الشعر، قدامة بن جعفر
البيان والتبيين، الجاحظ
نظرية الشعر عند الجاحظ
ديوان العرب
معابر
طريق الإسلام
شبكة المدارس الإسلامية
محمد كاظم صيّاديّ شاعرٌ عربيّ سوريّ وُلد في حلب 2003 وعاشَ فيها، محبٌّ للعلم والأدب، يعمل في مجال التصميم الجرافي.