ترسيخاً لخطواتنا
نحو حماية أصول الشعر وقواعده لدى الشباب المبدع، استوقفتني قصيدة جميلة أن أنقدها
وأظهر محاسنها ومثالبها على قدر معرفتي الأدبية النقدية الضئيلة.
الشاعر من معرفة الناقد:
محمد كاظم صيادي تولد
2002 حلب، يدرس في ثانوية المأمون. حائز على المركز الأول على مستوى حلب في
المبارزات الشعرية التي يقيمها اتحاد شبيبة الثورة 2019.
قاضي العشّاق
يــظـنـون رغـداً بـالـفــتى إن تبسمّا
وأنْ لم يذقْ طعم الهـوى مــن تكتّما
يــريدون قتلي دون سـيـف لأشتفي
وسـيـــفـيَ إنـكـارٌ بـقـتـلي تكـلـمّــا
حــذارِ الهـوى ما دُمتَ حراً محلقاً
ولـــسـتَ كــمـثـلـي بـالـقـيودِ تلثّما
فـواللهِ لـــو أحـيــــا حـيـاتي مجدّداً
ســأهــوى وأفنى لـيسَ مثلي تندّما
وأبـكي خيالاً لـيس يـرضى بنظرةٍ
وأبــكـي فــؤادي بــالنوى قدْ تنعّما
أنــسِّــي فــؤادي حـبّها بـعد فقـدِها
ولكنْ عـنـيــدٌ لـلـمـنـــايـــا تــرنّــما
(ظننتُ الهوى سهلاً فلمّا اخـتـبرتُه)
غـدوتُ لـربِّ الـمـوتِ فيــه مسلمّا
ظننتُ الهوى شيخاً سيرضى بحبِّها
وكانَ الهوى طفلاً بعُمري تعـلـمّــا
فـيـا قـاضـيَ العشّاق عجّل قضيّتي
وأوصِ "ترحّم "رُبّ خصمٍ ترحّما
وبلّغْ منِ استولى على الـقلبِ أنّني
على رغمِ مـوتــي بتُّ فيها متيّما
محاكاة علم العروض
اختار في قصيدته البحر
الطويل، الذي عرف بصعوبته واستعصائه على الكثير من شعراء عصرنا، بقافيته الميم
المطلقة الموصولة، ونعلم أن البحر الطويل هو بحر يأخذ أغلب الأغراض الشعرية
"حسب المعاني"
عنوان القصيدة نجده في
البيت الذي يقول فيه:
فـيـا قـاضـيَ العشّاق عجّل قضيّتي وأوصِ "ترحّم "رُبّ خصمٍ ترحّما
ونراه هنا في بيت
العنوان الذي يجب أن يكون بيت القصيد؛ يطلب العجلة، وكان من الأجمل لو أخذ بحراً
عجولاً يناسب طلبه العجلة عوضاً عن الطويل، غير أن الطويل يقبل الغزل كما يقبل
العديد من الأغراض الأخرى، كذلك الحصري القيرواني حين طلب التعجيل والتقصير اختار
أسرع بحر حين قال:
يا ليل الصب
متى غده أقيام الساعة موعده
أما عن القافية فهي
مناسبة لبعض الأبيات ومخالفة لبعضها مثلا عندما قال:
حــذارِ الهـوى ما دُمتَ حراً محلقاً ولـــسـتَ كــمـثـلـي بـالـقـيودِ تلثّما
وهنا في هذا البيت وجبت
مقيدة حيث تناسب معناها فهو عندما يذكر القيد لا بد أن يقيد القافية فتكون أجمل،
أما عندما يقول:
وأبـكي خيالاً لـيس يـرضى
بنظرةٍ وأبــكـي فــؤادي بــالنوى قدْ تنعّما
فهنا لا تأتي إلا مطلقة
كما هي، وبذلك نرى الارتباك في نظم القصيدة وربما... يكون ارتباك المشاعر قد أتى بذلك.
مناقشة القصيدة
1 ــ يــظـنـون رغـداً بـالـفــتى
إن تبسمّا
وأنْ لم
يذقْ طعم الهـوى مــن تكتّما
يقول الشطر الأول أن
الناس يظنون بالفتى كل خير في حال أنهم قد رأوا ابتسامته؛ وهذا معنى حامل لعدة
معان أخرى حسب توجيهه فهو على رغم وروده سابقا كثيرا إلا أنه ما يزال يحمل قابلية
للتجديد؛ فإذا نظرنا إلى الشطر الثاني الذي يعطف على الشطر الأول أن لم يذق "الهوى"
من كتمه أو من كان طبعه كتوماً، وهو هنا يشرك في عطفه معنيي التبسم والتكتّم وذلك
عطف جميل واف، وعطف الرغد على لم يذق الهوى وهنا حدث مشكلة نوعا ما.
هل الهوى الذي يقصد به
هنا الحب هو ضد الرغد؟! فإذا نظرنا إلى المفهوم العام وما ورد في أشعار القدامى
وجدنا أن للحب قسمين وصل وهجران ونراهم يترنمون بالوصل ويندبونه في الهجران الذي
يتكرس فيه عذاب الحب الذي يقصده هنا، ولكن قوله كلمة هوى وهو الميل نحو الشيء أو
الشخص لا يتجسد توصل وهجران ولا يتمثل بالعذاب المعهود للحب لأنه مرحلة تسبق الحب
بكثير، وبهذا الطرح في الشطر الثاني نراه أقحم معنى الشطر الأول الذي كان يقبل
المعاني الواسعة. هذا من ناحية -شرف المعنى- وقد كانت ألفاظه جزلة سليمة من العيوب
النطقية والمعرفية، ولا يمكن أن نتكلم على مشاكلة اللفظ للمعنى ما دام المعنى
مرتبكاً ولكن من ناحية مشاكلة الغرض فالألفاظ بأحرفها شاكلت الغرض حتى عند ورود
بعض الحروف الثقيلة (يظنون،يذق،طعم) فهي لم تضر البيت لعدم تكرارِ حرفٍ بعينه
ولتباعدها حيثُ ساهمت في التماسكِ الموسيقيّ للبيت.
وكذلك دعمَ موسيقا البيت
تكرارُ حرفِ النون الذي يُعرفُ بانسيابيته في الغزلِ خصيصاً، حتى أننا نرى أشهر
قصائدِ الغزل تأخذه روياً كنونيّة جرير وفيها يقول:
إن العيونَ
التي في طرفِها حورٌ قـتـلـنـنـا ثـــمَّ لم يحيينَ
قتلانـا
كذلك كرّر جرير النون مع أخذه إياه روياً ونرى ابن زيدون في نونيته الشهيرة يقول:
أضحى التنائي بديلاً من
تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
رغم أننا لا نرى في
البيتِ الأوّلِ تكثيفاً من الناحية اللفظية إلا أنّه متوازنٌ بشكلٍ أو بآخر.
2 ــ يــريدون قتلي دون سـيـف لأشتفي وسـيـــفـيَ إنـكـارٌ بـقـتـلي تكـلـمّــا
طبعا بكلمة يريدون كما
يظنون في البيت الأول يشير بها إلى العامة أو إلى مجتمعه الذي كما أشار في البيت
الأول أنهم لا يشعرون به ولا ينظرون سوى إلى المظاهر فهم بذلك يريدون قتلي؛ إلى
هنا المعنى سليم فيكمل قائلاً دون سيف حيث يدل هنا أن قتلهم هذا دون سيف أو سلاح
وذلك وارد وصحيح، فيلحقها لأشتفي حيث يدلُّ أن قتلي هو شفائي والمعنيين:
-
أن رؤيا الناس تقتل كما السيف بدون سيف
-
قتلي شفائي
كل منهما على حدا جميل،
ولكن ما الربط بينهما فإن القتل الشفاء "الموت الرحيم" كما يمكن أن
نسميه يكون مما يحبه الشخص لا لمعنى الموت بل لمعنى الشفاء وذلك ما يقتضيه
المقاربة في التشبيه وفي هذا البيت لا يجب أن يصور الناس بكلامهم الذي يشبه السيف
بأنهم يقتلون القتل الرحيم ولا يجوز فصلُ المعنى عن الآخر مما ذكر لأنه أقحمهما في
شطرٍ واحد لا يقبلُ التفصيل،
إلا أن نظرة الناس
الخاطئة تقتل؟َ! أجل تقتل
المحب المعذب الذي يخفي
عذابه موته شفاؤه ؟! أجل
ولكن... لا يجمع المعنيين هذا الجمع الذي
قتلهما، فيكمل على هذا المعنى المرتبك فيقول "وسيفي إنكار" وهي جملة
خبرية حيث رفع كلمة إنكار أي أن سيفه هو الإنكار ولكن أين سيفه من المعنى السابق؟!
حيث كان يتكلّم عن السيفِ الذي بدونه سيكون قتله، فما سيفه هنا وما الإنكار ....
إلى أن يقول بقتلي تكلما التي تعود على السيف الذي يمثل في المعنى الإنكار هنا!
وفي الصورة العامة في الشعر الحديث لا يتم ذكر السيف مشبهاً وإنما يذكر على أنه
مشبهٌ به لأن المشبه يأتي دائما من الواقع والسيف ليس واقعاً هنا فإذا قصد كناية
به وشبهه بشيء فذلك تكثيف بغيض يدخل مدخلَ الإقحامِ غير المفهوم ونرى البيت مرتبكَ
المعاني مشتت الروابط غير مفهوم...
أما من الناحية اللفظية
فلا تحسين فيها ولا عيوب، كذلك القصيدة كلها.
3 ــ حــذارِ الهـوى ما دُمتَ حراً محلقاً ولـــسـتَ كــمـثـلـي بـالـقـيودِ تلثّما
بيت راق لي...
يحذر من الهوى ويصفه
بالضد على أنه قيد بقوله ما دمت حرا محلقا ويقصد بذلك أنك إن كنت حرا محلقا فإن
الهوى قيد لك، ولكن إن كان الإنسان ليس حرا بالأساس؟...
في الجواب على هذا
السؤال يمكن أن نقول أنه قصَرَ القيدَ وعدمَ الحرية على الهوى أي أنه يتكلم
باجتزاء وتخصيص المفاهيم، وذلك وارد في الشعر كثيراً وله جماليته وإنما يبتعد عن
الشعر الأسمى الذي يقبل التأويلات على كلِّ الأوجه.
فيكمل مسترسلاً في معناه
أن الصفتين اللتان ذكرهما "الحرية والتحليق" لا توجدان فيه وذلك قوله
لست كمثلي حيث أن من مثلي بالقيود تلثم، وهنا وضع القيود موضع اللثام، وما قصده
بهذه الاستعارة أنه استعار من اللثام وظيفته وهي غالبا الإخفاء فأراد بذلك أن يقول
كثُرت القيود علي لدرجة أنها باتت تخفيني وهذا المعنى يأخذ على سبيل المبالغة أو
التأويل، ولكن اللثام ليس هنا بمعناه الدقيق، تلثم معناه الأصلي: شد على أنفه وفمه
ثوبا أو قطعة قماش وهو في استعارته جعل هذا القماش هو القيود ولكن ما دور الأنف
والفم في قصده لذلك؟...
وهنا نرى عذراً فإما أن
يكون في دقة اللغة أي في مشاكلة اللفظ للمعنى أو في موافقة المستعار للمستعار منه،
إلا أن ما شدني إلى هذا البيت هو التحام جزئي النظم الذي جسده التضاد المعنوي بين
الشطر الأول والثاني.
4 ــ فـواللهِ لـــو أحـيــــا حـيـاتي مجدّداً ســأهــوى وأفنى لـيسَ مثلي
تندّما
هنالك تلاعبٌ كبير في
الكلمات هنا، حيث بدأ بالفاء فالقسم فلو، علماً أن لو حرف امتناع لامتناع وهو يقول
لو أحيا حياتي مجدداً أي أنه لن يفعل ذلك قطعاً وأكد ذلك استخدامُ لو أي أنه يقسم
على ما لو حصل..... ولن يحصل.
فيكمل جوابه في الشطر
الثاني ولذلك دور في التحام أجزاء النظم أنه سيكرر ما فعل بدون ندم.
وإنما هذه الفاء في
بداية البيت وردت حشواً فلهذه الفاء أهميتها في النقلة بين الأبيات ولم نر شيئاً
من هذا في استعمالها هنا ونراها في قوتها عند عمر بن أبي ربيعة حين يقول:
فكان مجني
دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص
كاعبان ومعصر
وهنا جعل الثلاث فتيات
درعا له... وهذا في الواقع لا يُقبل بالعقل، ولكن لنرى ما الذي سبق هذا البيت وكيف
برر لنا ذلك:
فلمّا فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبّت في العشاء وأنور
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه
وروّح رعيان ونوّم سمّر
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال
حباب وركني خشية الحيّ أزور
فحيّيت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمكنون التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان فضحتني
وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف
رقيباً وحولي من عدوك حضّر
***
فقالت لأختيها أعينا على فتي
أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبتا فارتاعتا ثمّ قالتا
أقلّي عليك اللوم فالخطب أيسر
فقالت لها الصغرى سأعطيه مطرفي
وثوبي وهذا البرد إن كان يحذر
يقوم ويمشي بيننا متنكرا
فلا سرّه يفشو ولا هو يظهر
فكان مجنّي دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وورد أيضا في هذا البيت
طباق جميل قوى من التحام جزئي النظم حيث قال أحيا في الشطر الأول وأفنى في الثاني.
5 ــ وأبـكي خيالاً لـيس يـرضى بنظرةٍ وأبــكـي فــؤادي بــالنوى قدْ تنعّما
"وأبكي
خيالاً" مجاز جميل يتراوح معناه في تراوح تفسير معنى الخيال... ولكن كيف
للخيال أن يرضى بالنظرة؟ هل بقي الخيال بمعناه المطلوب؟ ويكمل ليقول" وأبكي
فؤادي" حيث يعطف الفؤاد على الخيال بالجمع وهنا نراه جمع الفؤاد والخيال معا
بفعل البكاء؛ وما كان ذلك إلا ليقول لنا أن قلبه وخيال المحبوبة مرتبطان لا يتفرقان
أي أنه إذا ذكرها أو ذكر خيالها حتى وجب أن يدق قلبه فيذكره بذكره، ويكمل
"بالنوى قد تنعما" وهذه الجملة تعود على فؤادي التي عرفت بإضافة الياء أي
أن الجملة تعرب حالاً للفؤاد، والحال زائل ومن البلاغة أن يجعلها صفة فالصفة
باقية، ويكون ذلك بقوله وأبكي فؤاداً بالنوى قد تنعما، وإنما في المعنى الأساس
يقول أن فؤاده يتنعم في النوى، وليس من المنطق أن يقول المحب ذلك، كذلك يقول في
الأبيات السابقة أن الهوى قيد له، فإن كان الهوى قيداً والنوى متعة فما الذي
يندبه؟
ربما قصد في ذلك بلاغة
مخالفة المعنى أو مخالفة العرف وإنما استخدام ذلك يحتاج الكثير من التفسير الذي
يسبقه ليكون مفهوم الدهشة.
إن جئت مكسوراً فضمك
واجب أنا في هواك أخالف
الإعرابا
هنا جسد تجسيدا جميلا للخلاف باستخدام المعاني المختلفة للكمات ومع ذلك كرر وصرح
بالخلاف، حبذا لو رأينا شيئاً من هذا القبيل.
6 ــ أنــسِّــي فــؤادي حـبّها بـعد فقـدِها ولكنْ عـنـيــدٌ لـلـمـنـــايـــا تــرنّــما
يقول هنا بعد أن ذكر
البكاء في البيت السابق: أنه ينسي فؤاده حبها بعد فقدها وربما يكون قد قصد أن
الوسيلة في ذلك هي البكاء، ونلاحظ القفزة الكبيرة في هذا البيت والبيت السابق حيث
انتقل من الهوى إلى الفراق بدون أي تدريج لهذه القفزة البعيدة، ويكمل في الشطر
الثاني بعد أن حاول تنسية فؤاده إياها رآه عنيدا "للمنايا ترنما" أي أنه
يقرن الحب بالمنية فإذا عممنا المعنى هكذا فهو معنى عقيم لأن الحب هو باعث من
بواعث الحياة، ولكنه هنا خصص تخصيصا جميلا حين قال: "بعد فقدها" أي أن
الحب المتبقي بعد الفقد منية، وهو معنى رائق جميل. وفي المعنى المجمل أن قلبه
يترنم لبقايا حبها ولكنها... ليست موجودة.
7- (ظننتُ الهوى سهلاً فلمّا اخـتـبرتُه)
غـدوتُ لـربِّ الـمـوتِ فيــه مسلمّا
الشطر الأول مضمّر من
قول الفازازي:
ظننتُ الهوى سهلاً فلمّا اخـتـبرتُه رأيـت الـمـنـايـا حـولـه
تـتـلـمـظ
وهنا نوضع في مقارنة بين
البيتين حيث أنهما استخدما الصدر ذاته...
عندما نسمع هذا الصدر
"ظننت الهوى سهلا فلما اختبرته" يخطر في بالنا قول المتنبي:
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ فَعَجِبتُ كَيفَ
يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
إذن الفكرة موجودة فعلا وهي في الإطار العام أن
الحب ذو وجهين وجه نراه قبل أن نحب ووجه لا يراه إلا المحب، وهناك تضاد في المعنى
بين الفازازي والمتنبي وذلك في تصوير أي وجه هو الوجه الجميل للحب.
وفي هذا الصدر نرى الوجه الأول جليا حيث يعبر
بكلمة "ظننت" على أنه يتكلم عن الوجه الظاهري الذي رآه سهلا، وأكمله
الفازازي على أنه رأى الموت حوله ــ ولنركز على كلمة حوله ــ وأتى باستعارة حين
قال يتلمظ.
أما كاظم فقال أنه غدا مسلما لرب الموت
"فيه" أي في الهوى وما قصده في الإضافة على الفازازي أنه إن كان في بيت
الفازازي خوف من الموت فإن كاظم لا يهاب أن يموت في "الهوى" فهو مسلم
للموت فيه، ولكنه وقع مرة أخرى في الحفرة ذاتها أي أن الهوى -الميل- والميل لا
يقتل حتى أن الفازازي قال: حوله ولم يقل فيه.
وبذلك عذر البيت في دقة
المعنى أو في دقة اللغة.
8- ظننتُ الهوى شيخاً سيرضى بحبِّها وكانَ الهوى طفلاً بعُمري تعـلـمّــا
ينص البيت في المجمل
كالتالي: ظننت الهوى شيخاً وكان طفلاً، ولننظر إلى صفات كل من الاثنين فمن صفات
الشيخ الحكمة والهدوء وما إلى ذلك وصفات الطفل أنه كثير الحركة وطائش وغالبا لا
يعلم ماهية ما يفعله، وأظن أنه قصد بهذا البيت حين قال أن الشيخ سيرضى بحبها أي من
حكمته أي أن حبها فيه من الحكمة الشيء الكثير، ولأنه طفل مثلي لم يرض بحبها أي من
طياشته -هكذا يرى- ولكن لنرى كيف صور ذلك بمن صور الشيخ والطفل؟ بالهوى .... وهل
الهوى هو من يرضى ولا يرضى عن الحب؟ هذا إذا اعتبرنا معناه بأن الحب من الحكمة أمرا
صحيحا فلطالما صور الشعراء الحب بالجنون.
ونذهب مياشرة إلى كلمة
القافية "تعلما" فهو يقول أن الطفل تعلم وهذا معنى ناقص أو غير دقيق
فنحن حين نتكلم عن الطفل إما أن نقول تعلم شيئاً ما مثلا تعلم المشي، أو نقول
يتعلم فالطفل بالذات هو من يتعلم بأكبر تقدير، ولكن عندما نقول تعلم المشي فهذا
يدل على تقدم هذا الطفل أي أنه أصبح أكبر من السابق وهي تدل في قولها على التكبير،
أما القول يتعلم فهو يدل على التصغير أي أنه لا يزال في طور التعليم وهو ما يحتاجه
المعنى هنا، وفي هذه القافية خللين الأول عدم مشاكلتها للمعنى والثانية عدم
الإقتضاء لها.
كنا ورد أيضا طباق جميل
هنا وهو "شيخ وطفل" وذلك أفاد بعد المقارنة وتأكيدها.
9- فـيـا قـاضـيَ العشّاق عجّل قضيّتي وأوصِ "ترحّم "رُبّ خصمٍ ترحّما
وهنا وصلنا إلى بيت
القصيد حيث أُخذ العنوان، فهو هنا يخاطب قاضي العشاق وحبذا لو سبق بحقل معجمي يضم
القاضي لكان أفضل فقد كانت هنا منبوذة في معجم القصيدة مما لا يخولها بأن تكون
عنوانا للقصيدة، يناديه فيطلب منه تعجيل قضيته، وبدوره كقاضي فتعجيله أي التعجيل
في إصدار الحكم، وهنا طلبه العجلة بدلا من طلبه الرحمة يدل على أحد أمرين إما أن
يكون راضيا بما سيحكم به القاضي وإما أن يكون على ثقة بنتيجة الحكم، وأرجح المعنى
الثاني لأنه يقول بعدها وأوص بالرحمة أي أنك رحمت ولكن أوص غيرك بذلك أيضا فقد قسى
المدعي بذلك، ولكن كان غلطه عندما قال : رب خصم ترحما وبهذا وضع المدعي الذي هو
الحبيب مقامَ الخصومة، وهذا يتعارض مع سياق الحديث. وهنا أيضا ورد قلة في التفسير أن
لماذا يترحم الخصم حيث تحتاج إلى مبرر لم يذكر.
10- وبلّغْ منِ استولى على الـقلبِ أنّني على رغمِ مـوتــي بتُّ فيها متيّما
"وبلغ" عائدة
على القاضي، من استولى على القلب؛ ومن هو الذي استولى على القلب هنا؟ حيث يقول
"بت فيها" وحتى يعود الاستيلاء عليها يجب أن يقول استولت حتى يعود
الاستيلاء على المحبوبة، ويقول في الشطر الثاني "على رغم موتي بت متيما"
وأظن خير ما قيل في ما
بعد الموت قول جميل:
يهواك ما عشت الفؤاد فإن
أمت يتبع صداي صداك بين
الأقبر
وهنا جعل جميل ما بعد
الموت صدى والصدى ما يسمع من الصوت بعد انتهائه، فهو هنا أكد فكرة الانتهاء
والفناء فإن كان للإنسان صدى ستجدين صداي يتبع صداك بعد الموت، ومن الشاعربة العالية
التي استخدمها هنا أنه ذكر موته ولم يذكر موتها وهو لأنه لا يتصوره أساسا.
أما كاظم فلم يستخدم
الصدى بل استخدم التتيم والتتيم هو التذلل أو يقال العبودية، وهو هنا حين يقول على
رغم موتي فهو هنا يستخدم مجازا أي أن فراقها هو الموت ولا يتكلم عم الموت الحقيقي،
وفي الحالين فإن صفة التتيم للحب هي من صفات الوصل وليست من صفات الهجران، وهو
أيضاً عذر في دقة اللغة.
وفي المجمل نرى قصيدة من
الغزل العذري على بحر صعب ولغة سليمة وهذا إن دل على شيء فيدل على أذن عربية جيدة
جداً في النحو والعروض، وما يثير الاهتمام أنها صدرت عن شاب حديث السن والعهد في
الشعر، نرى في القصيدة قلة في الموسيقا الداخلية التي تخدم البديع اللفظي وتجانس
الحروف، حيث أن ذاك كان ضرب أهل المعاني والشعراء المطبوعين عبر التاريخ، ولكننا
لا نستطيع تسمية قصيدة في عصرنا هذا أنها من الشعر المطبوع حيث أنها تصلنا مكتوبة
ولا مانع أن يرد عليها شيء من التدقيق والتنقيح الغير متكلف، فإذا أسقطنا القصيدة
على عمود الشعر وجدناها تقارب في ستة أبواب من سبعة حيث أنه لم يستخدم الوصف، وذلك
معهود في الغزل العذري، أما باقي الأبواب فلا بد له سقطة على الأقل في كل واحد
منها وقد ذكرنا التفصيل مسبقا ، وفي ختام هذا المقال أقول: لا بأس في نهج
المطبوعين وأهل المعاني في عصرنا فلطالما أوردونا بأجمل المعاني والأشعار، ولكن لا
بدَّ لمن أراد أن ينهج نهجهم أن يدقق كل التدقيق في المعنى والقصد مما يقول -طبعاً
بعد سلامة اللغة بعلومها- ، وللنقد نقد، وفوق كل ذي علم عليم.
جميل ورائع... شكراً لك يا زياد على هذا النقد فهو لا شك سينثر أثره فيّ وفي شعري...
ردحذفقال الشاعر في قصيدته
ردحذفحــذارِ الهـوى ما دُمتَ حراً محلقاً
ولـــسـتَ كــمـثـلـي بـالـقـيودِ تلثّما
فـواللهِ لـــو أحـيــــا حـيـاتي مجدّداً
ســأهــوى وأفنى لـيسَ مثلي تندّما
يحذر من الهوى..ثم يصر على الهوى دون ندم
ما هذه المفارقة الغريبة و غير المبررة